التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
زخر التاريخ الإسلامي بعد عهد رسول الله والخلافة الراشدة بالكثير من المواقف التكافلية والإغاثية، التي شملت كافَّة مظاهر التعاون والتآخي داخل المجتمع
التكافل والإغاثة في عهد المماليك (648 – 923هـ)
تنوَّعت وسائل التكافل والإغاثة في عهد المماليك، وقد ظهر أثرها واضحًا في تأسيس دور العلاج والتعاون في الأزمات المختلفة التي ألمـَّت بالدولة في تلك الفترة. وسوف نتناول أهم مظاهر التكافل والإغاثة في هذه الدولة من خلال ما يلي:
إقامة المستشفى المنصوري الكبير:
يُعرف هذا المستشفى باسم (مارستان قلاوون)، وكان دارًا لبعض الأمراء، فحوَّلها السلطان المنصور سيف الدين قلاوون إلى مستشفى عام 683هـ، وأوقف[1] عليه ما يغلُّ عليه ألف درهم في كلِّ سنة، وألحق به مسجدًا ومدرسةً ومكتبًا للأيتام.
وكان سبب بنائه أنَّ السلطان المنصور قلاوون لمـَّا توجه وهو أميرٌ إلى غزو الروم في أيَّام الظاهر بيبرس أصابه بدمشق مرض، فعالجه الأطباء بأدوية أُخذت له من المستشفى النوري الكبير فبرَأَ، وركب حتى شاهد المستشفى بنفسه، فأُعجب به ونذر لله إن أتاه الله الملك أن يبني مثله، فلمَّا صار سلطانًا اختار هذه الدار فاشتراها وحوَّلها إلى مستشفى، وكان آيةً من آيات الدنيا في التنظيم والترتيب، جعل الدخول إليه والانتفاع منه مباحًا لجميع الناس من ذكرٍ وأنثى، وحرٍّ وعبدٍ، وملكٍ ورعيَّة، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة، ومن مات جُهِّز وكُفِّن ودُفِن، وعيَّن فيه الأطباء من مختلف فروع الطب، كما وظَّف له الفرَّاشين والخَدَمة لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام، بحيث كان لكلِّ مريضٍ شخصان يقومان بخدمته، وجعل لكلِّ مريضٍ سريرًا وفرشًا كاملًا، وأفرد لكلِّ طائفةٍ من المرضى أماكن تختصُّ بهم، ورتب فيه مكانًا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب على الطلبة.
ومن أروع ما فيه أنَّ الاستفادة ليست مقصورة على من يُقيم فيه من المرضى؛ بل رتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج إليه من الأشربة والأغذية والأدوية، وأدَّى هذا المستشفى عمله الإنساني الجليل حتى أخبر بعض أطباء العيون الذين عملوا فيه أنَّه كان يُعالج فيه كلَّ يومٍ من المرضى الداخلين إليه والناقهين والخارجين أربعة آلاف نفس، ولا يخرج منه كلَّ من يبرأ من مرضٍ حتى يُعطى كسوةً للباسه، ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه.
ومن أروع ما فيه -أيضًا- النصُّ في وقفيَّته على أن يُقدَّم طعام كلِّ مريضٍ بزبديَّةٍ خاصَّةٍ به من غير أن يستعملها مريضٌ آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل[2].
أزمات نقص المياه والفيضانات:
شهد عصر المماليك العديد من الأحداث، أهمُّها ما كان يحدث من انخفاضٍ لمستوى النيل أو زيادته عن الحدِّ المطلوب، حيث مثَّل هذا الأمر خطرًا حقيقيًّا على الحياة في عهد المماليك؛ ذلك أنَّ النيل إذا قلَّ عن الحدِّ اللازم شَرِقت البلاد وفات أوان الزراعة، كما كان إذا زاد عن الحدِّ المطلوب أغرق البلاد، كذلك كان استمراره فترةً أطول من المفترضة؛ يعني تأخر الزراعة وما يتبع ذلك من فسادها.
ويجدر بنا أن نُشير إلى أنَّ أخطار الفيضانات المنخفضة أو العالية لم تكن تكمن في التأثير على الزراعة فقط؛ بل وما يترتَّب على فسادها من غلاء ومجاعة ونفوق الماشية، ثم ما يتبع ذلك كله من ظهور الأوبئة والطواعين، نظرًا إلى أنَّ غالبية المجاعات والأوبئة التي ألمـَّت بمصر في ذلك العصر -وفي جميع العصور التي اعتمد الناس فيها على الفيضان- كانت مرتبطة بنهر النيل وفيضانه السنوي[3].
ومن أمثلة الفيضانات المنخفضة ما حدث في عهد السلطان قلاوون سنة 689هـ، بسبب انخفاض مستوى النيل وتوقفه عند خمسة عشر ذراعًا ونصف تقريبًا، فشرقت بلادٌ كثيرةٌ وارتفع سعر الغلال، ممَّا أثَّر على المجتمع فقرائه وأغنيائه.
وكذلك ما حدث سنة 694هـ من انخفاضٍ أقضَّ مضاجع الناس، لِمَا ترتَّب عليه من مأساة، بسبب هذا الانخفاض، فبُدِّل العام بالأتراح عوضًا عن الأفراح، والانزعاج بدلًا من الابتهاج، فابتدأ الغلاء في الغلال، والفناء في الرجال والنساء[4].
وكما شهدت البلاد انخفاض الفيضان سنة 694هـ، شهدت انخفاضًا آخر في عهد المنصور "حسام الدين لاجين"، الذي تولَّى قبل عودة "الناصر محمد بن قلاوون" للسلطنة في المرَّة الثانية، وإن كان عهد الناصر "محمد" المشرق لم يخلُ من مثل هذه "الفيضانات المنخفضة"، وذلك حينما شحَّ النيل سنة 725هـ، فشرقت البلاد ووقع الغلاء بسائر الديار المصرية[5].
كما تكرَّر نقص مياه الفيضان في عهد خلفائه مثلما حدث في عهد السلطان شعبان سنة 775هـ، وهي السنة التي اعتبرها المؤرِّخون سنة "الشراقي العظيم"[6]؛ لعظم ما حدث فيها من جفاف وغلاء.
وكانت جميع الانخفاضات التي مرَّت بنا أخفَّ وطأةً من نظيراتها في الدولة المملوكيَّة الثانية، بسبب تصدِّي سلاطين الدولة المملوكية الأولى لها، وبسبب قوَّة المرافق، ووجود مخزونٍ طبيعيٍّ لمواجهة السنوات المجدبة، وقد ابتدأت هذه الكوارث في الدولة الثانية في عهد السلطان فرج سنة 806هـ، فكان جفافًا لم تشهد البلاد له مثيلًا، وأعقبه الغلاء المفرط والوباء؛ لذلك اعتبر المؤرِّخون أنَّ هذه السنة هي أولى سنوات المحن التي خربت بسببها الديار المصرية، بسبب انخفاض النيل وغيره من الأسباب، وهو ما دفع "المقريزي" إلى تأليف كتابه "إغاثة الأمَّة بكشف الغمَّة"[7].
وممَّا زاد من سوء حال البلاد أنَّ النقص لم يقتصر على هذه السنة؛ بل استمرَّ بصورةٍ متقطِّعةٍ لمدَّة خمس عشرة سنة، "فشرقت الأراضي إلَّا قليلًا، وعظم الغلاء والفناء فباع أهل الصعيد أولادهم من الجوع وصاروا أرقَّاء مملوكين، وشمل الخراب الشنيع عامَّة أرض مصر وبلاد الشام"[8].
وقد توالت المحن على البلاد كما حدث في سنوات 827هـ، 830هـ، 837هـ وذلك في عهد "السلطان برسباي" فقط، وكذلك ما شهدته البلاد من انخفاض النيل في سنوات 852هـ، 853هـ، 854هـ على التوالي في عهد "السلطان جقمق" فأشرفت البلاد على الخراب، حيث خلت القرى من أهلها الذين وردوا على القاهرة، وصاروا أفواجًا في طرقات القاهرة مع الفقر، فمات منهم الكثير من شدة القحط[9].
على أنَّنا يجب أن نفهم أنَّ الكارثة لم تكن تحدث من عدم انخفاض النيل فقط؛ ولكن قد يحدث أن يوفي الفيضان، ثم ينقص كثيرًا بمجرَّد فتح السدود، أو أنَّ المياه لا تمكث على الأرض المدَّة اللازمة، وفي مثل هذه الحالات كان الفلاحون يعجلون بالزراعة، ممَّا كان يُؤدِّي إلى فساد الزروع بسبب زراعتها قبل أوانها، كما كانت تتعرَّض لمخاطر الفئران والديدان وغيرهما من الآفات، التي كان من المفترض أنَّ الفيضان يُطهِّر الأرض منها[10].
وبالنسبة إلى الفيضانات العالية، فلم يكن الحال بأحسن منه في الفيضانات المنخفضة؛ فعلى سبيل المثال زاد النيل أربع مرات في سلطنة الناصر محمد (ت 741هـ) إلى ثمانية عشر ذراعًا فحصل منه غاية الضرر، وتقطَّعت الجسور، وغرقت الطرقات والبلاد، فتلف كثيرٌ من الزراعات والغلال في الأجران والمطامير.
وكان الحل العملي السريع الذي يقوم به السلاطين هو الكتابة إلى جميع الولاة بفتح الترع والجسور في سائر الوجهين القبلي والبحري، وكذلك تصريف المياه إلى البحر ما أمكن ذلك[11].
وكان أشدُّ هذه الكوارث ما حدث في سنة 724هـ في عهد الناصر محمد، حين زاد النيل إلى تسعة عشر ذراعًا إلَّا قليلًا، فغرقت الأقصاب والمعاصر وكثير من شون الغلال، "وصارت المراكب لا تجد بَرًّا تضرب فيه الوتد من قوص إلى القاهرة، وغرقت الفيوم لانقطاع جسرها"[12]. كذلك حدث في سنة 761هـ في عهد السلطان الناصر حسن أن بلغ النيل إلى ما يقارب أربعة وعشرين ذراعًا، وهو مبلغٌ عظيمٌ انقلب منه جسر الفيوم، وتقطَّعت الطرقات وامتنع الناس عن السفر، وظنُّوا أنَّ الله أرسل عليهم الطوفان، وكان أكثر المضارِّين من هذا الفيضان الفلاحين نظرًا إلى تبحُّر الأراضي لطول مكوث المياه فيها[13].
وفي أواخر الدولة الأولى شهدت البلاد ثلاثة ارتفاعات للفيضان في عهد السلطان الأشرف شعبان بن حسين، فكان يحدث للفلاحين مثل ما ذكرنا، وممَّا يُظهر هلع جماهير الناس من هذه الزيادة، أنَّ السلطان عندما يعلم ببوادر هذه الزيادة المدمِّرة، كان يأمر بمنع المناداة اليوميَّة على مقدار زيادة النيل زمن الفيضان[14].
وفي أوَّل سنوات حكم "برقوق" سنة 784هـ ارتفع الفيضان حيث تجاوز عشرين ذراعًا، فغرقت مواضع كثيرة، وتهدَّم العديد من المنازل، وتقطَّعت الجسور كلُّها حتى عجز الفلاحون عن سدها، وقد وصف المقريزي ما حلَّ بالبلاد جرَّاء هذا الفيضان من تهدُّمٍ للدور واندثارٍ للعديد من القرى وتشرُّدٍ للفلاحين[15]، ثم تكرَّر ما حدث هنا في سنة 797هـ[16].
وفي سنة 825هـ زاد النيل عن الحدِّ فأغرق أكثر الأراضي والغيطان، فرسم السلطان "برسباي" للأمراء بالتواجد على الجسور لحفظها، خوفًا من أن يطرق البلاد الغرق على حين غفلة، على الرغم من كسر السدود قبل الأوان، ومع ذلك استمرَّ النيل في هذه السنة ثابتًا لمدَّةٍ أطول من المعتادة، فحصل بثباته غاية الضرر، وتعذَّر الزرع في ميعاده[17]، وكذلك حدث في سنة 829هـ في عهد "برسباي" ولم يختلف الأمر كثيرًا عما مرَّ بنا في الفيضانات التي أتت بعد ذلك[18].
ومع عظم الأضرار التي لحقت بالفلاحين من جراء الفيضانات المرتفعة عن الحدِّ اللازم، إلَّا أنَّها ظلَّت باستمرار أقل تأثيرًا من الحالات التي يقل فيها الفيضان؛ ففي حالات الزيادة ربَّما زرعت الأرض، وإن كان ذلك بعد فوات الأوان فإنَّه لم يمنع من نجاح بعض الزراعات، أمَّا في حالات النقص فإنَّ الأرض كانت تشرق ولا تجد سبيلًا إلى الزراعة، هذا فضلًا عن أنَّ حالات الغلاء كانت تتبع النقص في الغالب دون الزيادة[19].
مواجهة هذه الأزمات:
تنوَّعت الوسائل التي واجه بها المماليك هذه الأزمات الطاحنة وما يترتَّب عليها من مشكلاتٍ أرَّقت الشعوب في تلك الفترة؛ فقد بنى الظاهر بيبرس (658 – 678هـ) القناطر على جسر شبرمنت لتتلقَّى صدمة الماء الأولى، وشيَّد كذلك قناطر السباع[20] وذلك لمواجهة الفيضانات، أمَّا مشكلة نقص منسوب مياه النيل، الذي كان ينتج عنه المجاعات ونقص الأغذية، فكان هناك إجراءٌ جيِّدٌ لمواجهته، وهو توفير مخزون من القمح والأغذية تكفي حاجة الناس مدَّة نقص المياه؛ فقد واجه بيبرس مجاعة قاسية في عام 664هـ برباطة جأش، وباستعدادٍ سريعٍ ينطوي على كثيرٍ من التعقل، فنظم مكيال القمح، وعمل على إيجاد ما يكفي المعوزين من القوت لمدَّة ثلاثة أشهر[21].
ولم تقتصر جهود الظاهر بيبرس على هذه الأعمال التكافليَّة والإغاثيَّة فحسب؛ بل امتدت -أيضًا- لتشمل كذلك المقدَّسات الإسلامية والأعمال الخيريَّة الأخرى؛ فقد جدَّد بناء قبة الصخرة في القدس بعد أن تداعت أركانها، وأعاد الضياع الخاصَّة بوقف الخليل في فلسطين بعد أن دخلت في الإقطاع، ووقف عليها قرية تُسمَّى بإذنا[22].
[1] ذكر الدكتور مصطفى السباعي نص الوقفية لهذا المستشفى العظيم في كتابه روائع حضارتنا ص113.
[2] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص111، 112.
[3] قاسم عبده قاسم: دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي ص160.
[4] العيني: عقد الجمان 3/275.
[5] ابن إياس: بدائع الزهور 1/457.
[6] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 11/229، 230.
[7] السابق: 12/301.
[8] المقريزي: المواعظ والاعتبار 2/99.
[9] ابن تغري بردي: حوادث الدهور 2/327- 334.
[10] المقريزي: المواعظ والاعتبار 1/84، وابن حجر: إنباء الغمر 7/324.
[11] العيني: عقد الجمان 23/401.
[12] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 3/75.
[13] ابن إياس: بدائع الزهور 1/569، 570.
[14] السابق: ص105.
[15] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 5/139.
[16] السابق: 5/376 بتصرف.
[17] ابن الصيرفي: نزهة النفوس 3/9، وابن إياس: بدائع الزهور 2/83.
[18] ابن إياس: بدائع الزهور 2/330.
[19] مجدي عبد الرشيد: القرية المصرية في عصر سلاطين المماليك ص203.
[20] طقوش: تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ص 153 - 156.
[21] المرجع السابق.
[22] المرجع السابق.
التعليقات
إرسال تعليقك